فصل: (سورة الأحزاب: آية 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأحزاب: آية 32]:

{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)}.
أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يريد بين جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} إن أردتن التقوى، وإن كنتن متقيات {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} فلا تجبن بقولكن خاضعا، أي: لينا خنثا مثل كلام المريبات والمومسات {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي ريبة وفجور. وقرئ بالجزم، عطفا على محل فعل النهى، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول. ونهى المريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضعن فلا يطمع. وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول، أي: فيطمع القول المريب {قَوْلًا مَعْرُوفًا} بعيدا من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.

.[سورة الأحزاب: آية 33]:

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}.
وَقَرْنَ بكسر القاف، من وقر يقر وقارا. أو من قرّ يقرّ، حذفت الأولى من رائى:
أقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، كما تقول: ظلن، وقرن: بفتحها، وأصله: أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، كقولك: ظلن، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان:
وجها آخر، قال: قار يقار: إذا اجتمع. ومنه. القارة، لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة. والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام: كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: بين إدريس ونوح. وقيل: زمن داود وسليمان، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روى: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبى الدرداء رضى اللّه عنه «إن فيك جاهلية» قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: «بل جاهلية كفر».
أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاما في جميع الطاعات، لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات: من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن، لئلا يقارف أهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر، لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما المحسنات، فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه اللّه لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء. أو على المدح. وفي هذا دليل بين على أنّ نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم من أهل بيته.

.[سورة الأحزاب: آية 34]:

{وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}.
ثم ذكرهن أنّ بيوتهن مهابط الوحى، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات تدل على صدق النبوّة، لأنه معجزة بنظمه. وهو حكمة وعلوم وشرائع إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفًا خَبِيرًا حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم.
أو علم من يصلح لنبوّته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته. أو حيث جعل الكلام الواحد جامعا بين الغرضين.

.[سورة الأحزاب: آية 35]:

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}.
يروى أنّ أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم قلن: يا رسول اللّه، ذكر اللّه الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة. وقيل: السائلة أم سلمة.
وروى أنه لما نزل في نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ فنزلت. والمسلم: الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوّض أمره إلى اللّه المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى اللّه. والمؤمن: المصدق باللّه ورسوله وبما يجب أن يصدق به.
والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها. والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله. والصابر:
الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: المتواضع للّه بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلى لم يعرف من عن يمينه وشماله. والمتصدق: الذي يزكى ماله ولا يخل بالنوافل. وقيل:
من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين. ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين.
والذاكر اللّه كثيرا: من لا يكاد يخلو من ذكر اللّه بقلبه أو لسانه أو بهما. وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات» والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف، لأنّ الظاهر يدل عليه. فإن قلت: أي فرق بين العطفين، أعنى عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين؟ قلت: العطف الأوّل نحو قوله تعالى: {ثَيِّباتٍ وَأَبْكارًا} في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما. وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن معناه: إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ}.

.[سورة الأحزاب: آية 36]:

{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا (36)}.
خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبى أخوها عبد اللّه، فنزلت، فقال: رضينا يا رسول اللّه، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. وقيل: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وهي أوّل من هاجر من النساء، وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: قد قبلت، وزوّجها زيدا.
فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزوّجنا عبده والمعنى وما صح لرجل ولا امرأة من المؤمنين إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي رسول اللّه أو لأنّ قضاء رسول اللّه هو قضاء اللّه أَمْرًا من الأمور: أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. فإن قلت: كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. قلت: نعم ولكنهما وقعا تحت النفي، فعما كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ. وقرئ: يكون، بالتاء والياء. والْخِيَرَةُ ما يتخير.

.[سورة الأحزاب: آية 37]:

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)}.
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو أجل النعم، وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفقك اللّه فيه، فهو متقلب في نعمة اللّه ونعمة رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعنى زينب بنت جحش رضى اللّه عنها، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه، فقال: سبحان اللّه مقلب القلوب، وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن وألقى اللّه في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إنى أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك: أرابك منها شيء؟ قال: لا واللّه، ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علىّ لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق اللّه، ثم طلقها بعد، فلما اعتدت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب علىّ زينب. قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشرى إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن زَوَّجْناكَها فتزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودخل بها، وما أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها: ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار. فإن قلت: ما أراد بقوله وَاتَّقِ اللَّهَ؟ قلت: أراد: واتق اللّه فلا تطلقها، وقصد نهى تنزيه لا تحريم، لأن الأولى أن لا يطلق. وقيل: أراد: واتق اللّه فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها.
وقيل: مودة مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدا سيطلقها وسينكحها، لأن اللّه قد أعلمه بذلك. وعن عائشة رضى اللّه عنها: لو كتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا مما أوحى إليه لكتم هذه الآية. فإن قلت: فما ذا أراد اللّه منه أن يقوله حين قال له زيد: أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: افعل، فإنى أريد نكاحها؟ قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته، لأن اللّه يريد من الأنبياء تساوى الظاهر والباطن، والتصلب في الأمور، والتجاوب في الأحوال، والاستمرار على طريقة مستتبة، كما جاء في حديث إرادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل عبد اللّه بن أبى سرح واعتراض عثمان بشفاعته له: أن عمر قال له: لقد كان عينى إلى عينك، هل تشير إلىّ فأقتله، فقال: إن الأنبياء لا تومض، ظاهرهم وباطنهم واحد.
فإن قلت: كيف عاتبه اللّه في ستر ما استهجن التصريح به ولا يستهجن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن، وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات؟ وماله لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟
ولم يعصم نبيه صلى اللّه عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيى من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند اللّه، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتى فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها.
ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار، حتى نزلت إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ولو أبرز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة، فهذا من ذاك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها، ونفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متعلقة بها، ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر، فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر، وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمّهات المسلمين.
إلى ما ذكر اللّه عز وجل من المصلحة العامّة في قوله لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا فبالحرى أن يعاتب اللّه رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات في مواطن الحق، حتى يقتدى به المؤمنون فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مرا. فإن قلت: الواو في وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ ما هي؟ قلت: واو الحال، أي: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفى خاشيا قالة الناس وتخشى الناس، حقيقا في ذلك بأن تخشى اللّه، أو واو العطف، كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك. أمسك، وإخفاء خلافه، وخشية الناس. واللّه أحق أن تخشاه، حتى لا تفعل مثل ذلك.
إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل: قضى منه وطره. والمعنى: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة، وتقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسه، وطلقها، وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها وقراءة أهل البيت: زوّجتكها. وقيل لجعفر بن محمد رضى اللّه عنهما: أليس تقرأ علىّ غير ذلك، فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما قرأتها على أبى إلا كذلك، ولا قرأها الحسن بن علىّ على أبيه إلا كذلك، ولا قرأها على بن أبى طالب على النبي صلى اللّه عليه وسلم إلا كذلك وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا جملة اعتراضية، يعنى: وكان أمر اللّه الذي يريد أن يكونه، مفعولا مكونا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب، ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. ويجوز أن يراد بأمر اللّه: المكون، لأنه مفعول بكن، وهو أمر اللّه.

.[سورة الأحزاب: الآيات 38- 39]:

{ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}.
فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا. ومنه فروض العسكر لرزقاتهم سُنَّةَ اللَّهِ اسم موضوع موضع المصدر- كقولهم: تربا، وجندلا-:
مؤكد لقوله تعالى: {ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} كأنه قيل: سنّ اللّه ذلك سنة في الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة وسبعمائة فِي الَّذِينَ خَلَوْا في الأنبياء الذين مضوا الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ يحتمل وجوه الإعراب: الجرّ، على الوصف للأنبياء. والرفع والنصب، على المدح على هم الذين يبلغون. أو على: أعنى الذين يبلغون. وقرئ: رسالة اللّه. قدرا مقدورا: قضاء مقضيا، وحكما محكوما؟، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا اللّه: تعريض بعد التصريح في قوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}.
حَسِيبًا كافيا للمخاوف، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون حقّ الخشية من مثله.